أطفالنا وعشر ذي الحجة




جاء عن ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:”أَدِّبِ ابْنَكَ فَإِنَّكَمَسْؤُولٌ عَنْهُ: مَاذَا أَدَّبْتَهُ، وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ ؟ وَهُوَمَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ ” [1]،
وقال بعض العلماء: “اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْأَل الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِيَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْل أَنْ يَسْأَل الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ” [2] .
لقد كان دَيدَنُ السلف الصالح في تربيتهم لأولادهم: بناء معتقدهم، وتنميةمهاراتهم وقدراتهم، وتحصينهم ضد الشهوات والشبهات، وتأهيلهم للأعمالالجليلة، والواجبات الشرعية، والسلوكيات الحميدة، وقد وردت النصوص فيتأكيد ذلك وبيانه. جاء عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَقَالَتْ: “أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَعَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتي حَوْلَ الْمَدِينَةِ “مَنْكَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَمُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ). فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَنَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَاللَّهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَمِنَ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَاإِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ”. [3] .

هكذا كانوا، وهكذا ينبغي لنا أن نكون مع أطفالنا في خير أيام الدنيا؛عشر ذي الحجة، يقول صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيهنأحب إلى الله من هذه الأيام العشرة” قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد فيسبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلميرجع من ذلك بشيء”. [4] .

وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه منالعمل فيهن، من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”.[5] .

قال الإمام ابن حجر: “الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِالْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَيَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْالْجُمُعَةِ فِي غَيْرِهِ لِاجْتِمَاعِ الْفَضْلَيْنِ فِيهِ”. [6] .

فهل ترى من النَّجابة في شيء أن نُفوِّتَ أياماً عظيمة كهذه الأيام دونأن ننقش من آثارها على أولادنا، فيشب أحدهم وقد اعتاد القيام بشعائرالإسلام، وتمرَّس على واجباته ومستحباته، ونشأ وقد وقَرَ في قلبه عظمة مانُعظِّمه، وصارت أعظم الأشياء عنده ما نعتقده، متين المعتقد، سليم القلب،طاهر اللسان، شاباً صالحاً، وعضواً نافعاً في المجتمع؟!
إننا لنُحَقِّقَ هذه الخِصال مع أطفالنا في أعظم الأيام عند الله، ينبغيأن تكون لنا خُطوات أسرية إيمانية مدروسة، نستجلبُ بها رحمة الكريمالمنَّان، ونؤكِّد فيها التقارب معهم، ونرسم أهدافاً سامية يسعى الجميعإلى تحقيقها في دنياه لعمارة آخرته وبنائها.

الخطوة الأولى (لفت الانتباه):

وذلك بطباعة حديث الإمام البخاري، وحديث الإمام أحمد، وقول الإمام ابنحجر -رحمهم الله- التي ذُكرت مطلع هذا المقال، بصورة واضحة، وتعليقها فيغرفة الجلوس، أو في مكان بارز في البيت؛ ليتمكن الجميع من قراءتها.. ولوأمكن إعلان جائزة مناسبة لمن يحفظها من أفراد الأسرة، لكان هذا جميلاً.

الخطوة الثانية ( التهيئة النفسية):

حيث تجتمع الأسرة في حلقة حول الأب، أو غيره من أفراد الأسرة، لبيانعظمة هذه الأيام العشر، فقد ذكرها الله تعالى في كتابه: (وَالْفَجْروَلَيَالٍ عَشْرٍ) [7] ، وجاءت الأحاديث وأقوال السلف في فضلها [8] ،وأنها أعظم أيام الدنيا، وقد حثَّ نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- علىالعمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير، ثم فيها يوم عرفة، ويومالنحر، واجتمعت فيها أمهات العبادة: الحج، والصدقة، والصيام، والصلاة. [9].

يتم عرض هذا كله بأسلوب مشوِّق يتناسب مع الفئة العمرية لأفراد الأسرة، وبمزيد من المراعاة لفُهُوم الأطفال فيها.

الخطوة الثالثة (التعرف إلى أَعْمال العَشر):

دلَّت النصوص من الكتاب والسنَّة وأقوال أهل العلم على استحباب الإكثار من الأعمال الصالحة في هذه العشر، ومن ذلك:

أولاً: أداء الصلوات المفروضة على وجهها الأكمل، بأدائها على وقتها،والتبكير لها، وإتمام ركوعها وسجودها، وتحقيق خشوعها، فعن عبد الله بنمسعود رضي الله عنه قال: “سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُعَلَى وَقْتِهَا”. [10] .

ثانياً: التقرب إلى الله بالإكثار من قراءة القرآن، والصدقات، وإعانةالمحتاجين، والتوبة والاستغفار، وصلاة النوافل، وأداء السنن الرواتب،وصلاة الضحى، والوتر، وقيام الليل، فقد جاء عن سعيد بن جبير قال: “لاتطفئوا سرجكم ليالي العشر”. [11] ، كناية عن القراءة والقيام.

ثالثاً: صيام ما تيسر من أيام هذه العشر؛ فهو داخل في جنس الأعمالالصالحة، وآكدها صيام يوم عرفة لغير الحاج، قال صلى الله عليه وسلم:“صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَالسَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ”. [12] .

رابعاً: الإكثار من التهليل، والتكبير، والتحميد، لقوله صلى الله عليهوسلم: “فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”. [13] ، كما أنهيُستحَبّ التكبير المطلق في البيت، والسوق، والعمل، إلا ما دلَّت النصوصعلى كراهة الذكر فيه، قال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِيأَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ). [14] ، وصفته: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاالله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) [15] ،”قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍوَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أَيَّامُ الْعَشْرِ …وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِيأَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا”[16] .

خامساً: ومن أعظم الأعمال في هذه العشر حج بيت الله الحرام، وقصد بيتهلأداء المناسك لمن تيسر له، قال صلى الله عليه وسلم: “الحج المبرور ليس لهجزاء إلاّ الجنة”. [17] . وقال صلى الله عليه وسلم: “من حج فلم يرفث ولميفسق رجع كيوم ولدته أمه”. [18] .

سادساً: ومن الأعمال الجليلة في هذه العشر المباركة؛ ذبح الأضاحيتقرباً لله، فإنه: “صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهمابيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صِفَاحِهِما”. [19] .

الخطوة الرابعة (الجانب التطبيقي التربوي):

1- تشجيع الأطفال على حفظ الذكر المطلق في أيام العشر، وكذا حفظ شيء مننصوص فضائل الأعمال فيها، من خلال إعلان مسابقة لذلك وجوائز حسية ومعنوية،فإن لذلك أثره الكبير في صياغة عقلية الطفل واهتماماته في المستقبل، قالإبراهيم بن أدهم: “قال لي أبي: يا بني، اطلبِ الحديث، فكلما سمعت حديثاًوحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا”. [20] .

2- اعتياد الصغير للعبادة سبب في محبتها وإلْفها، فتكون سهلة ميسورةحين كِبَره، كيف وهو يرى والديه جعلا أعمال العشر برامج تطبيقية عملية فيحياتهم، يذكِّرون بالصلاة على وقتها، ويُرَدِّدُون على مسمعه كلماتالأذان، ويُرَطِّبُون أسماعه بترداد التكبير المطلق، ويصطحبونه لإيصالالصدقات وإعانة المحتاجين، يُعَرِّفونه بالسنن الرواتب وأجورها،ويُعوِّدونه صيام جزء – ولو يسيراً جداً – من اليوم.
3- الجلسات الحوارية الأسرية الهادئة لها أثرها البالغ في حياة الطفل، ولوكانت إحداها في شرح معاني مفردات التهليل والتحميد والتكبير، وشيء مندلالات أسماء الله وصفاته، وبيان الحكمة من الصلاة، والصوم، وإعانةالمحتاجين، وأثر أيام العشر، ويوم عرفة على العباد، لكان في ذلك ترسيخلمحبة الله سبحانه، وتعظيمه، وتوقيره، وقدره حق قدره، وترسيخ محبة رسولالله صلى الله عليه وسلم، وسبب في أن ترتبط نفس الطفل بمولاه سبحانه،وتنمو روحه وتَسْلَمُ فِطرتَه، ويبقى مستظلاً بظلها، يعيش معناها فيكِبَره شيئاً فشيئاً.

4- استثمار المزايا العظيمة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم للعملالصالح في هذه الأيام العشر، لتبيان أن الله جعلها أمام عبيده؛ ليتقربواإليه، فتزيد حسناتهم، وتُحطّ سيئاتهم، فيفوزوا بجنة عرضها السموات والأرض.ما أنها تدل على محبة الله لعباده المؤمنين، وأن قَدْرَ الموَحِّد عندالله عظيماً؛ فلا يجوز تخويفه، أو رفع السلاح في وجهه، أو التنابز معهبالألقاب الفاحشة، فقد نظر ابن عمر -رضي الله عنه- يوماً إلى الكعبة فقال:“ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك”. [21] .

5- في الأضحية إحياء لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وفيها تذكيربقصَّة الفداء والتضحية والتقرب إلى الله، وفيها هدي نبينا -صلى الله عليهوسلم- يوم العيد، وحين إلقاء الوالدين على أطفالهم قصة نبي الله إبراهيممع ابنه إسماعيل؛ إذ أصبح يوم فداء إسماعيل وإنقاذه من الذبح عيدًاللمسلمين يُسمَّى بعيد الأضحى، يذبح فيه المسلمون الذبائح تقربًا إلىالله، وتخليدًا لهذه الذكرى، تبقى هذه القصة مؤثرة في عقولهم ووجدانهم،يعيشون حياة أبطالها، يستمعون بشغفٍ إليها، ويتقمَّصون ما فيها من حِكَمأو دلالات، وينسجون لنفوسهم خيالات واسعة بين أحداثها، فيؤمنوا بما دلَّتعليه، وتفتح لهم ملكة التفكير للتعبير والإبداع النافع.

أطفالنا، أكبادنا تمشي على الأرض، أمانة في أعناقنا، يتعلَّمون خلالسِنِيِّ حياتهم مَعَنا ما يُعينهم على القيام بأدوارهم المستقبلية، تارةبالتقليد والمحاكاة، وتارة بالمحاولة والخطأ، وتارة بما اعتادوا عليه؛فإنه من المعروف أن الطفل يتأثر بوالديه، وهذا الأثر يبقى لفترة طويلة، قدتمتد طوال عمره، وقِيَم الوالدين والأخوة تنتقل للأطفال بصورة مباشرة بحسبمجريات الحياة اليومية ومستجداتها، ولذا فعلى الوالدين إشباع أطفالهمبمنظومة قيمية، ومعرفية، وروحانية، ومهارية؛ تجعلهم مؤمنين بربهم، صالحينفي أنفسهم، بَنَّائين في مجتمعهم.